التربية الدامجة: من المقاربة الطبية إلى
المقاربة الحقوقية
1- مقدمة
عرفت مسألة الإعاقة تحولات عميقة في التصورات والمقاربات
المعتمدة لمعالجتها، خصوصا في المجال التربوي. فبعد أن ساد لسنوات طويلة تصور طبي
ينظر إلى الإعاقة باعتبارها عجزا فرديا يتطلب العلاج أو الرعاية الخاصة، برزت خلال
العقود الأخيرة مقاربة حقوقية جديدة تؤكد أن الإعاقة نتاج تفاعل بين الفرد وبيئته،
وأن الحق في التعليم الدامج حق أصيل غير قابل للتمييز.
ارتبط مفهوم الإعاقة في بداياته الحديثة بالمقاربة
الطبية، التي انطلقت من افتراض مفاده أن الإعاقة خلل فردي ناتج عن قصور عضوي أو
وظيفي، يستدعي التشخيص والعلاج والتأهيل. ووفق هذا التصور، تم التعامل مع الأشخاص
في وضعية إعاقة باعتبارهم حالات استثنائية تحتاج إلى تدخل متخصص خارج النسق
التعليمي العادي. وقد أدى هذا الفهم إلى هيمنة منطق التصنيف والفرز، وإلى إنشاء
مؤسسات تعليمية موازية منفصلة عن المدرسة العمومية، غير أن هذا التصور سرعان ما
أظهر محدوديته، خاصة مع بروز انتقادات علمية أكدت أن الإعاقة لا يمكن اختزالها في
البعد الطبي وحده، فقد كشفت الأبحاث السوسيولوجية والتربوية أن الحواجز البيئية
والتنظيم المدرسي غير المرن، والتمثلات الاجتماعية السلبية، تشكل عناصر أساسية في
إنتاج الإعاقة وتعميق آثارها. ومن هذا المنطلق بدأ التحول نحو تصور اجتماعي يرى أن
الإعاقة ليست خاصية ثابتة في الفرد، بل وضعية ناتجة عن عدم ملاءمة البيئة لمتطلبات
التنوع الإنساني.
ومع تطور هذا الطرح، تبلورت المقاربة الحقوقية التي
أعادت تعريف الإعاقة ضمن إطار حقوق الانسان، معتبرة أن مسؤولية المجتمع والمؤسسات
تكمن في تهيئة الشروط التي تضمن المشاركة الكاملة والمتكافئة لجميع الأفراد، دون
تمييز أو إقصاء.
ويهدف هذا المقال إلى تتبع تطور مفهوم الإعاقة، وبيان
الانتقال من منطق العزل إلى منطق الحقوق، مع إبراز الدور المحوري للاتفاقيات
الدولية في ترسيخ التربية الدامجة، وتحليل انعكاسات المقاربة الحقوقية على المدرسة
باعتبارها الفضاء الأساسي لتحقيق الإدماج والإنصاف التربوي.
2- تطور مفهوم الإعاقة
ارتبط مفهوم الإعاقة تاريخيا بالمقاربة الطبية، التي
ركزت على الجانب العضوي أو الوظيفي للفرد، واعتبرت الإعاقة خللا أو قصورا يستدعي
العلاج أو التأهيل. ووفق هذا التصور، كان الشخص في وضعية إعاقة ينظر إليه بوصفه
حالة خاصة تحتاج إلى مؤسسات منفصلة مثل المدارس أو المراكز المتخصصة.
غير أن هذا الفهم الضيق للإعاقة تعرض لانتقادات واسعة،
خاصة مع تطور العلوم الاجتماعية وحقوق الإنسان. فقد أبرزت الدراسات الحديثة أن
الإعاقة لا تكمن فقط في القصور الفردي، بل في الحواجز البيئية والاجتماعية
والثقافية التي تعيق مشاركة الفرد الكاملة في المجتمع. ومن هنا بدأ التحول نحو
تصور اجتماعي وحقوقي يرى أن المجتمع مسؤول عن تهيئة الظروف المناسبة لدمج جميع
أفراده دون تمييز. إن هذا الفهم
الضيق للإعاقة تعرض لانتقادات واسعة، خاصة مع تطور العلوم الاجتماعية، وعلم النفس
التربوي، ودراسات الإعاقة (Disability Studies). فقد أبرزت هذه
المقاربات أن الإعاقة لا تكمن فقط في القصور الفردي، بل في الحواجز البيئية
والاجتماعية والثقافية التي تعيق مشاركة الفرد الكاملة في المجتمع. فغياب
الولوجيات، ونقص التكييفات البيداغوجية، والتمثلات السلبية، كلها عوامل تساهم في
إنتاج الإعاقة وتعميق آثارها.
ومن هنا، بدأ التحول نحو تصور اجتماعي وحقوقي يرى أن المجتمع، وليس
الفرد وحده، مسؤول عن خلق شروط الإدماج. ووفق هذا المنظور، يصبح دور السياسات
العمومية والمؤسسات التربوية هو إزالة الحواجز، وتوفير الدعم اللازم، والاعتراف
بالتنوع البشري باعتباره قيمة إيجابية، لا عبئا ينبغي التخلص منه.
3- من
منطق العزل إلى منطق الحقوق
أدى التصور الطبي للإعاقة إلى اعتماد سياسات تعليمية
قائمة على العزل، حيث كان المتعلمون في وضعية إعاقة يُوجَهون إلى مؤسسات منفصلة،
بدعوى توفير رعاية خاصة لهم. غير أن هذه السياسات رغم نواياها ساهمت في تكريس
الإقصاء والوصم الاجتماعي.
فرزت المقاربة الطبية للإعاقة سياسات تعليمية قائمة على العزل
المؤسسي، حيث جرى توجيه المتعلمين في وضعية إعاقة إلى مدارس أو أقسام خاصة، انطلاقا
من افتراض عدم قدرتهم على مسايرة التعليم العادي. ورغم أن هذه السياسات كانت تبرَر
أحيانًا بدوافع حماية المتعلم أو توفير دعم متخصص، إلا أنها أسهمت عمليا في تكريس
التهميش الاجتماعي، وإضعاف فرص الاندماج، وتعزيز الوصم المرتبط بالإعاقة.
ومع بروز المقاربة الحقوقية، تغيرت النظرة جذريا، إذ أصبح التعليم الدامج يعد حقا أساسيا، وليس امتيازا أو خدمة اختيارية. ويقوم هذا المنطق على مبدأ المساواة وعدم التمييز، وعلى ضرورة تمكين جميع المتعلمين من الولوج إلى المدرسة العادية، مع توفير التكييفات والدعم اللازمين. وهكذا لم يعد السؤال هو: "كيف نُكيّف المتعلم مع المدرسة؟" بل: "كيف نكيف المدرسة مع تنوع المتعلمين؟".
ويعكس هذا التحول تغييرا جوهريًا في منطق التدخل التربوي، إذ لم يعد
الهدف هو تكييف المتعلم مع نموذج مدرسي جامد، بل تكييف المدرسة نفسها مع تنوع
المتعلمين، من خلال مراجعة المناهج، وطرائق التدريس، وأساليب التقويم، بما يضمن
الإنصاف والعدالة التربوية.
4- دور الاتفاقيات الدولية في ترسيخ المقاربة
الحقوقية
لعبت الاتفاقيات والمواثيق الدولية دورًا محوريًا في
الانتقال نحو التربية الدامجة، فقد أكدت اتفاقية حقوق الطفل
(1989) على حق جميع الأطفال في التعليم دون تمييز،
بما في ذلك الأطفال ذوو الإعاقة. كما شكلت اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (2006) منعطفا حاسما، إذ نصت
صراحة في مادتها 24 على "حق الأشخاص ذوي الإعاقة في التعليم الدامج
على قدم المساواة مع الآخرين".
وساهمت تقارير ومنشورات منظمة اليونسكو في تعزيز هذا
التوجه، من خلال الدعوة إلى الانتقال من منطق الإدماج الجزئي إلى منطق الدمج
الشامل، باعتباره ركيزة لتحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف التربوي. وقد دفعت هذه
المرجعيات الدولية العديد من الدول إلى مراجعة سياساتها التعليمية وتشريعاتها
الوطنية بما ينسجم مع المقاربة الحقوقية.
أسهمت الاتفاقيات الدولية بشكل حاسم في إضفاء الطابع
الإلزامي على المقاربة الحقوقية للإعاقة، خاصة في المجال التعليمي. فقد أرست اتفاقية
حقوق الطفل لسنة 1989 مبدأ عدم التمييز، وأكدت حق جميع الأطفال في التعليم، مع
التنصيص على ضرورة توفير الدعم المناسب للأطفال ذوي الإعاقة بما يضمن كرامتهم
وتنميتهم الشاملة.
غير أن التحول الأبرز تمثل في اتفاقية حقوق الأشخاص
ذوي الإعاقة لسنة 2006، التي شكلت مرجعًا دوليا أساسيا في مجال التربية
الدامجة. إذ نصت المادة الرابعة والعشرون منها على حق الأشخاص ذوي الإعاقة في
التعليم الدامج داخل النظام التعليمي العام، وأكدت التزام الدول باتخاذ التدابير
اللازمة لضمان هذا الحق، بما في ذلك التكييفات المعقولة، والدعم الفردي،
والتكنولوجيا المساندة.
5- انعكاسات المقاربة الحقوقية على المدرسة
أفرز اعتماد المقاربة الحقوقية في التربية الدامجة
تحولات عميقة في بنية المدرسة ووظائفها فلم تعد المدرسة فضاء موحدا يفرض نموذجا
تعليميا واحدا، بل أصبحت مطالبة بالاعتراف بتنوع المتعلمين والاستجابة لاحتياجاتهم
المختلفة، ويتجلى ذلك في اعتماد التكييف البيداغوجي، وتنويع طرق التدريس، وتطوير
أساليب التقويم الدامج.
كما تفرض هذه المقاربة تعزيز التكوين الأساسي والمستمر
للمدرسين في مجال التربية الدامجة، وتوفير الموارد البشرية والتقنية اللازمة، مثل
المختصين والتكنولوجيا المساندة. إضافة إلى ذلك تؤكد المقاربة الحقوقية على أهمية
إشراك الأسرة والمجتمع المدني في دعم المتعلمين، باعتبار التربية الدامجة مسؤولية
جماعية وليست حكرا على المؤسسة المدرسية وحدها.
أدى اعتماد المقاربة الحقوقية في مجال التربية الدامجة
إلى إحداث تحولات بنيوية ووظيفية داخل المدرسة، فلم تعد المؤسسة التعليمية مطالبة
بتقديم تعليم موحد، بل أصبحت فضاءً للتنوع، يستوجب الاعتراف بالاختلافات الفردية
والاستجابة لها بمرونة بيداغوجية وتنظيمية، حيث يتجسد ذلك في اعتماد استراتيجيات
تدريس دامجة، مثل التكيف البيداغوجي، وتنويع أنماط التعلم، وتطوير تقويمات مرنة
تراعي الفروق الفردية، وتبتعد عن منطق الإقصاء والانتقاء. كما تفرض هذه المقاربة
إعادة النظر في تكوين المدرسين، من خلال إدماج التربية الدامجة ضمن التكوين
الأساسي والمستمر، وتوفير كفاءات متخصصة داخل المؤسسات التعليمية.
إضافة إلى ذلك، تؤكد المقاربة الحقوقية على أهمية
الشراكة بين المدرسة والأسرة والمجتمع المدني، باعتبار أن إنجاح التربية الدامجة
يتطلب تعبئة جماعية تتجاوز حدود الفصل الدراسي، وتسهم في بناء بيئة تعليمية منصفة
وداعمة.
6- خاتمة
يظهر التحليل أن الانتقال من المقاربة الطبية إلى
المقاربة الحقوقية في معالجة الإعاقة يمثل تحولا نوعيًا في الفكر التربوي المعاصر،
أعاد تعريف الإعاقة ضمن إطار حقوق الإنسان، وأسهم في ترسيخ التربية الدامجة كخيار
استراتيجي لتحقيق العدالة والإنصاف التربويين. غير أن تفعيل هذا الخيار يظل رهينًا
بتوافر إرادة سياسية واضحة، واستثمار فعلي في الموارد البشرية والتقنية، وترسيخ
ثقافة مدرسية قائمة على قبول التنوع واحترام الكرامة الإنسانية.
وعليه، فإن التربية الدامجة لا يمكن اختزالها في إجراءات
تقنية أو بيداغوجية معزولة، بل تشكل مشروعا مجتمعيا متكاملا، يهدف إلى بناء مدرسة
قادرة على استيعاب جميع المتعلمين وضمان حقهم في تعليم ذي جودة دون تمييز أو إقصاء.
📚 المراجع
العلمية
📖 مراجع
عربية
-1 اليونسكو. التربية
الدامجة: ضمان حق التعليم للجميع. باريس: اليونسكو، 2017.
-2 بنعلي، محمد.
التربية الدامجة: الأسس النظرية والتطبيقات العملية. الرباط:
دار الأمان، 2019.
-3 العياشي،
عبد الكريم.
حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة في التشريع الدولي. الدار
البيضاء: دار الثقافة، 2018.
