التربية الدامجة كآلية لتحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص التعليمية
مقدمة
يشكل التعليم أحد الركائز الأساسية لتحقيق التنمية
البشرية وبناء مجتمعات قائمة على العدالة الاجتماعية والمواطنة الفاعلة. غير أن
الواقع التعليمي في العديد من الدول يكشف عن استمرار اختلالات بنيوية تؤدي إلى
إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية داخل المدرسة، بدل الحد منها. فرغم تعميم الولوج
إلى التعليم في كثير من السياقات، ما تزال فئات واسعة من المتعلمين تعاني من
الإقصاء أو التهميش، سواء بسبب الإعاقة، أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي، أو
الاختلافات الثقافية واللغوية.
في هذا السياق، برز مفهوم الإنصاف التربوي كإطار تحليلي
وعملي يهدف إلى تجاوز محدودية المساواة الشكلية، والانتقال نحو عدالة تعليمية
فعلية تراعي اختلاف أوضاع المتعلمين وحاجاتهم. كما برزت التربية الدامجة بوصفها
أحد المداخل الاستراتيجية لتحقيق هذا الهدف، من خلال إعادة تنظيم المدرسة على أسس
تقوم على الاعتراف بالتنوع وضمان تكافؤ الفرص التعليمية للجميع.
ويهدف هذا المقال إلى تحليل التربية الدامجة باعتبارها
آلية لتحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص، وذلك من خلال تناول مفهوم الإنصاف التربوي،
وبيان العلاقة بين التربية الدامجة ومبدأ تكافؤ الفرص، وتحليل الفوارق التعليمية
وأثر الدمج في الحد منها، ثم الوقوف عند دور السياسات العمومية في إرساء منظومة
تعليمية دامجة ومنصفة.
أولا: مفهوم الإنصاف التربوي
يعد الإنصاف التربوي من المفاهيم المركزية في النقاشات
التربوية المعاصرة، وقد اكتسب أهمية خاصة في ظل الانتقادات الموجهة إلى منطق
المساواة الذي طبع السياسات التعليمية التقليدية. فالمساواة، بمعناها الشكلي، تقوم
على معاملة جميع المتعلمين بالطريقة نفسها، دون الأخذ بعين الاعتبار اختلاف ظروفهم
الاجتماعية، أو قدراتهم الفردية، أو حاجاتهم الخاصة. غير أن هذا المنطق، رغم ما
يحمله من نوايا إيجابية، غالبا ما يؤدي إلى تكريس اللامساواة بدل تقليصها.
في المقابل، يقوم الإنصاف التربوي على مبدأ الاعتراف
بالاختلاف، وعلى ضرورة توفير دعم تفاضلي للمتعلمين، بما يضمن لهم فرصا حقيقية
للاستفادة من التعليم. فالعدالة التعليمية لا تتحقق حين يحصل جميع المتعلمين على
الموارد نفسها، بل حين يحصل كل متعلم على ما يحتاجه فعليا لتحقيق التعلم والنجاح
الدراسي.
أ- التعريف اللغوي للإنصاف
يرجع الأصل اللغوي لكلمة الإنصاف إلى الجذر الثلاثي
"ن ص ف"، الذي يدل على العدل وإعطاء كل ذي حق حقه دون زيادة أو نقصان.
ويقال أنصفه أي عامله بعدل، ورفع عنه الظلم، وقاسمه الشيء على وجه الاستواء.
ويستعمل الإنصاف في اللغة العربية للدلالة على الاعتدال والوسطية، وعلى الموازنة
بين الأطراف المتقابلة بما يحقق العدالة.
ويفهم من هذا المعنى اللغوي أن الإنصاف لا يعني بالضرورة
المساواة الحسابية المطلقة، وإنما يركز على تحقيق العدل من خلال مراعاة اختلاف
الأوضاع والظروف، بما يضمن عدم الجور أو التحيز.
ب- التعريف الاصطلاحي للإنصاف
يستخدم مفهوم الإنصاف في الحقول الاجتماعية والتربوية
للإشارة إلى مبدأ يقوم على تحقيق العدالة الفعلية داخل النظم والمؤسسات، عبر
الاعتراف بالفوارق الفردية والاجتماعية بين الأفراد، والاستجابة لها بسياسات
وممارسات ملائمة. وفي المجال التربوي، يشير الإنصاف إلى ضمان استفادة جميع
المتعلمين من فرص تعليمية ذات جودة، مع توفير أشكال دعم متفاوتة بحسب حاجاتهم،
بهدف تقليص الفوارق في النتائج التعليمية.
وبذلك، يختلف الإنصاف عن المساواة الشكلية التي تفترض
معاملة الجميع بالطريقة نفسها، إذ يركز الإنصاف على تكييف الموارد، والمناهج،
وطرائق التدريس، بما يسمح بتحقيق فرص تعلم عادلة. ويعد الإنصاف أحد المرتكزات
الأساسية للتربية الدامجة، لأنه يضع المتعلم في قلب العملية التعليمية، ويجعل من
تنوعه نقطة انطلاق لبناء استجابات تربوية منصفة.
ج- التعريف الإجرائي للإنصاف
يقصد بالإنصاف، في هذا البحث، مجموعة الإجراءات
والسياسات التربوية التي تعتمدها المنظومة التعليمية من أجل ضمان حق جميع
المتعلمين في تعليم دامج وذي جودة، من خلال توفير دعم بيداغوجي وتنظيمي متمايز،
يراعي الاختلافات الفردية والاجتماعية، خاصة تلك المرتبطة بالإعاقة، أو الوضع
الاجتماعي والاقتصادي، أو صعوبات التعلم.
ويتمثل الإنصاف إجرائيا في اعتماد تكييفات بيداغوجية،
وتنويع طرائق التدريس والتقويم، وتخصيص موارد إضافية للفئات الهشة، بما يسهم في
تقليص الفوارق التعليمية وتحقيق تكافؤ الفرص والنتائج داخل المدرسة.
ويرتبط مفهوم الإنصاف التربوي ارتباطا وثيقا بالعدالة الاجتماعية، حيث
تصبح المدرسة مطالبة بلعب دور تعويضي يهدف إلى الحد من آثار الفوارق الاجتماعية
والاقتصادية. ويتطلب ذلك إعادة النظر في طرق توزيع الموارد التعليمية، وفي
السياسات التي تؤدي إلى الإقصاء غير المباشر، مثل الانتقاء المبكر، أو التقويم
الإقصائي، أو المناهج غير الملائمة لتنوع المتعلمين.
ومن هذا المنطلق، يشكل الإنصاف التربوي تحولا في الفلسفة التعليمية،
ينتقل فيها التعليم من كونه خدمة موحدة إلى كونه حقا يستدعي استجابات تربوية مرنة
ومتنوعة، تراعي الفروق الفردية وتسعى إلى تحقيق نتائج تعليمية عادلة.
ثانيا: التربية الدامجة ومبدأ تكافؤ
الفرص التعليمية
تشكل التربية الدامجة أحد أبرز المداخل العملية لتحقيق الإنصاف وتكافؤ
الفرص التعليمية، إذ تقوم على مبدأ أساسي مفاده أن لجميع المتعلمين، دون استثناء،
الحق في الولوج إلى المدرسة العادية، والمشاركة في مختلف أنشطتها، والاستفادة من
تعليم ذي جودة. ولا يقتصر هذا الحق على مجرد التسجيل في المؤسسة التعليمية، بل
يشمل أيضا شروط التعلم، وطرائق التدريس، وأساليب التقويم، وفرص النجاح
والاستمرارية.
ويفترض مبدأ تكافؤ الفرص في إطار التربية الدامجة تجاوز الفهم الضيق
الذي يحصره في إتاحة الفرص نفسها للجميع، والانتقال إلى فهم أعمق يربط بين تكافؤ
الفرص وتكافؤ النتائج التعليمية. فالمتعلمون لا ينطلقون من النقطة نفسها، وبالتالي
فإن تحقيق العدالة يقتضي اعتماد وسائل وطرائق مختلفة تضمن وصولهم إلى أهداف
تعليمية ذات قيمة متكافئة.
وتنطلق التربية الدامجة من تصور إيجابي للتنوع داخل الفصل الدراسي،
حيث لا ينظر إلى الاختلاف بوصفه مشكلة، بل باعتباره واقعا طبيعيا ورافدا تربويا
يمكن استثماره. ويتطلب ذلك اعتماد بيداغوجيات مرنة، مثل التعليم المتمايز، والتعلم
التعاوني، والتعلم النشط، بما يسمح لكل متعلم بالتقدم وفق إيقاعه الخاص.
كما تؤكد التربية الدامجة أن تكافؤ الفرص التعليمية لا يمكن فصله عن
جودة التعليم، إذ لا معنى لإدماج المتعلمين داخل المدرسة إذا كان التعليم المقدم
لهم غير ملائم أو غير ذي جدوى. ومن ثم، فإن تحقيق تكافؤ الفرص يظل رهينا بإعادة
التفكير في وظيفة المدرسة، وفي علاقتها بالمتعلمين، وفي الأدوار المنوطة بالمدرسين.
ثالثا: الفوارق التعليمية وأثر الدمج
تعكس الفوارق التعليمية أحد أبرز مظاهر عدم الإنصاف داخل الأنظمة
التربوية، حيث تظهر نتائج التعلم بشكل غير متكافئ بين المتعلمين، تبعا لخلفياتهم
الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إضافة إلى الإعاقة أو صعوبات التعلم. وتؤدي هذه
الفوارق إلى تفاوت فرص النجاح المدرسي، وإلى ارتفاع معدلات التعثر والهدر
والانقطاع، خاصة في صفوف الفئات الهشة.
وفي هذا السياق، تبرز التربية الدامجة كآلية فعالة للحد من الفوارق
التعليمية، من خلال إرساء بيئة مدرسية داعمة تستجيب لحاجات المتعلمين المختلفة.
فدمج المتعلمين في وضعية إعاقة أو صعوبات تعلم داخل الفصول العادية، مع توفير
الدعم البيداغوجي والنفسي والتقني اللازم، يسهم في تحسين تحصيلهم الدراسي، ويعزز
شعورهم بالانتماء، ويحد من الوصم الاجتماعي.
ولا يقتصر أثر الدمج على المتعلمين المستهدفين بشكل مباشر، بل يمتد
ليشمل جميع المتعلمين، حيث يساهم في تنمية قيم التعاون، والتضامن، واحترام
الاختلاف. كما يسهم في تحسين الممارسات البيداغوجية للمدرسين، من خلال دفعهم إلى
اعتماد طرائق تدريس أكثر تنوعا ومرونة.
غير أن تحقيق هذه الآثار الإيجابية يظل مشروطا بتوفر شروط موضوعية، من
بينها تكوين المدرسين في مجال التربية الدامجة، وتوفير الموارد البشرية والتقنية،
وتكييف المناهج والبرامج. وفي غياب هذه الشروط، قد يتحول الدمج إلى إجراء شكلي لا
يسهم في الحد من الفوارق، بل قد يؤدي إلى تعميقها.
رابعا: دور السياسات العمومية في
ترسيخ التربية الدامجة
تلعب السياسات العمومية دورا حاسما في ترسيخ التربية الدامجة
باعتبارها آلية لتحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص التعليمية. فنجاح هذا التوجه لا يمكن
أن يتحقق من خلال مبادرات فردية أو تجارب معزولة، بل يتطلب رؤية استراتيجية
شمولية، وإطارا قانونيا ومؤسساتيا واضحا.
وتتمثل أولى مهام السياسات العمومية في إدماج مبادئ الإنصاف والتربية
الدامجة ضمن التشريعات التعليمية، وضمان انسجامها مع الالتزامات الدولية في مجال
حقوق الإنسان. كما يتطلب الأمر تخصيص موارد مالية كافية، وتوفير آليات للحكامة
الجيدة، والتتبع، والتقييم، بما يضمن نجاعة السياسات المنفذة.
ويعد تكوين المدرسين أحد المحاور الأساسية في هذا الإطار، إذ لا يمكن
تحقيق التربية الدامجة دون فاعلين تربويين مؤهلين يمتلكون الكفايات اللازمة
للتعامل مع تنوع المتعلمين. كما تبرز أهمية تعزيز التنسيق بين القطاعات المختلفة،
مثل التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية، وإشراك الأسرة والمجتمع المدني في دعم
المتعلمين.
خامسا: خاتمة
يتبين من خلال هذا التحليل الموسع أن التربية الدامجة تمثل مدخلا
استراتيجيا لتحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص التعليمية، في ظل ما تعرفه الأنظمة
التربوية من تحديات مرتبطة بالفوارق الاجتماعية والإعاقة وصعوبات التعلم. فهي ليست
مجرد خيار بيداغوجي، بل تعبير عن التزام مجتمعي وأخلاقي بحق الجميع في تعليم ذي
جودة.
غير أن تفعيل هذا الخيار يظل رهينا بإرادة سياسية واضحة، وبسياسات
عمومية منسجمة، وبممارسات تربوية واعية قادرة على تحويل مبادئ الإنصاف من مستوى
الخطاب إلى مستوى الممارسة. ومن ثم، فإن الرهان الحقيقي يكمن في بناء مدرسة دامجة
ومنصفة، قادرة على استيعاب التنوع، وضمان الحق في التعليم لجميع المتعلمين دون
تمييز أو إقصاء.
المراجع العلمية
مراجع عربية
ü
اليونسكو.
التربية الدامجة: ضمان حق التعليم للجميع. باريس، 2017.
ü
بنعلي،
محمد. التربية الدامجة: الأسس النظرية والتطبيقات العملية. الرباط: دار الأمان،
2019.
üالعياشي، عبد الكريم. العدالة الاجتماعية في التعليم. الدار البيضاء: دار الثقافة، 2018
