التقويم الدامج نحو تقييم عادل للمتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة

 

التقويم الدامج نحو تقييم عادل للمتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة

 

التقويم الدامج نحو تقييم عادل للمتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة

مقدمة

يشكل التقويم التربوي احد الركائز الأساسية التي يقوم عليها الفعل التعليمي التعلمي، إذ لا يقتصر دوره على قياس التحصيل الدراسي فحسب، بل يتعداه الى توجيه التعلم وتحسين جودة الممارسات البيداغوجية وضمان الانصاف وتكافؤ الفرص بين المتعلمين. وفي ظل التحولات التي عرفتها النظم التربوية المعاصرة، برزت التربية الدامجة كخيار استراتيجي يهدف الى تمكين جميع المتعلمين بمن فيهم ذوو الاحتياجات الخاصة، من حقهم في تعليم منصف وملائم لخصوصياتهم الفردية، غير ان نجاح التربية الدامجة يظل رهينا بمدى قدرة المدرسة على تبني أليات تقويمية عادلة ومرنة تستحضر الفروق الفردية وتراعي التنوع الوظيفي والمعرفي والنفسي للمتعلمين...

لقد أفرز الاعتماد المطلق على التقويم التقليدي إشكالات عميقة، تمثلت في إقصاء فئات واسعة من المتعلمين، خاصة ذوي الإعاقات أو صعوبات التعلم، بسبب عدم ملاءمة ادوات التقييم لقدراتهم الحقيقية. ومن هنا برز مفهوم التقويم الدامج باعتباره إطارا بيداغوجيا جديدا يسعى إلى تجاوز منطق التصنيف والاقصاء، وتعويضه بمنطق الدعم والمواكبة والانصاف. فالتقويم الدامج لا ينظر إلى المتعلم من زاوية العجز، بل من زاوية الإمكانات القابلة للتنمية، ولا يختزل التعلم في نتيجة رقمية، بل يعتبره مسارا تطوريا متعدد الأبعاد.

وتكمن أهمية هذا الموضوع في راهنيته وارتباطه الوثيق بالسياسات العمومية في مجال التعليم، خاصة في سياق تنزيل المدرسة الدامجة، كما هو الحال في المغرب؛ حيث أصبحت مسالة تقويم المتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة تحديا بيداغوجيا ومؤسساتيا يستدعي إعادة التفكير في فلسفة التقييم وأدواته ووظائفه. وانطلاقا من ذلك، تسعى هذه المقالة إلى تحليل مفهوم التقويم الدامج، وبيان الفرق بينه وبين التقويم التقليدي، واستعراض أدوات التقويم التكويني، ثم الوقوف عند أثر التقويم الدامج على التحصيل الدراسي، في افق بناء منظومة تقييمية عادلة ومنصفة.

أولا: مفهوم التقويم الدامج

يحيل مفهوم التقويم في اللغة العربية على معاني التعديل والتصحيح والتسوية، إذ يقال قوم الشيء أي عدله وجعله مستقيما، وهذا المعنى اللغوي يحمل في طياته بعدا إصلاحيا، يتجاوز مجرد الحكم إلى السعي نحو التحسين. أما الدمج لغة، فيدل على الادخال والضم والاشراك، وهو ما يعكس فلسفة الانفتاح وعدم الاقصاء. ومن ثم، فإن التقويم الدامج، من حيث الدلالة اللغوية، هو عملية تصحيحية إصلاحية تسعى إلى إشراك جميع المتعلمين دون استثناء في مسار التقييم.

أما على المستوى الاصطلاحي، فيعرف التقويم الدامج بكونه عملية تربوية شمولية تهدف إلى جمع وتحليل معلومات متنوعة حول تعلم المتعلمين، مع مراعاة الفروق الفردية والاحتياجات الخاصة، من أجل دعم التعلم وتحسينه، وليس فقط من أجل اتخاذ قرارات تصنيفية. ويتميز هذا النوع من التقويم بمرونته واعتماده على تعدد الأدوات والوسائط، بما يتيح للمتعلمين التعبير عن مكتسباتهم بطرق مختلفة تتلاءم مع قدراتهم.

ويستند التقويم الدامج الى مرجعيات نظرية متعددة، من بينها نظرية الذكاءات المتعددة، والمقاربة السوسيو بنائية، والتصميم الشامل للتعلم، حيث يتم الانتقال من نموذج موحد للتقييم الى نموذج تفاضلي يراعي التنوع، كما يرتبط التقويم الدامج ارتباطا وثيقا بمبدأ الانصاف، إذ يسعى إلى تحقيق العدالة التربوية من خلال تكييف شروط التقييم وليس تخفيض المعايير الأكاديمية.

أما على المستوى الإجرائي، يمكن تعريف التقويم الدامج بأنه مجموعة من الممارسات والأدوات التقييمية التي يعتمدها المدرس داخل القسم الدامج، قصد تتبع تقدم المتعلمين، وخاصة ذوي الاحتياجات الخاصة، عبر تكييف طرق التقويم، وتوفير ترتيبات تيسيرية، مثل تمديد الزمن، تبسيط التعليمات، استخدام وسائل بصرية أو تكنولوجية، أو اعتماد تقييم بديل كالمشاريع والعروض. ويهدف هذا الإجراء إلى الكشف عن التعلمات الفعلية للمتعلمين، وليس عن إعاقتهم أو صعوباتهم.

ومن ثم، فان التقويم الدامج يشكل تحولا في الثقافة التربوية، حيث ينتقل من منطق الحكم إلى منطق الدعم، ومن منطق المساواة الشكلية الى منطق العدالة الوظيفية، بما يعزز كرامة المتعلم ويضمن حقه في تقييم منصف.

ثانيا: الفرق بين التقويم التقليدي والتقويم الدامج

يقوم التقويم التقليدي على تصور اختزالي للتعلم، حيث يتم قياس مكتسبات المتعلمين من خلال اختبارات موحدة، في زمن محدد وبوسائل غالبا ما تكون كتابية مع التركيز على النتيجة النهائية. ويهدف هذا النوع من التقويم الى التصنيف والمقارنة بين المتعلمين، مما يجعله أداة انتقائية تكرس الفوارق الاجتماعية والتربوية، خاصة بالنسبة للمتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة. في المقابل ينطلق التقويم الدامج من تصور شمولي للتعلم، باعتباره عملية دينامية تتطور عبر الزمن وتتاثر بعوامل نفسية واجتماعية وثقافية. لذلك فهو يعتمد على تقييم مستمر يركز على المسار أكثر من النتيجة وعلى التقدم الفردي بدل المقارنة الجماعية، كما انه يتيح للمتعلمين فرصا متعددة لإظهار تعلمهم مما يقلل من الضغط النفسي ويعزز الدافعية.

أما من حيث الأهداف يسعى التقويم التقليدي إلى إصدار حكم نهائي حول مستوى المتعلم، غالبا في شكل نقطة او معدل بينما يهدف التقويم الدامج الى دعم التعلم واتخاذ قرارات بيداغوجية تساعد على التكيف مع حاجات المتعلمين. كما أن التقويم التقليدي يفترض تماثل المتعلمين في حين يعترف التقويم الدامج بالتنوع ويعتبره قيمة مضافة.

أما من حيث الأدوات، فيعتمد التقويم التقليدي أساسا على الاختبارات الكتابية المغلقة، في حين يوظف التقويم الدامج أدوات متنوعة، مثل الملاحظة، ملفات الإنجاز، التقييم الذاتي، المشاريع، والعروض الشفوية؛ حيث يكتسي هذا التنوع اهمية خاصة بالنسبة للمتعلمين ذوي الاعاقات الحسية او الحركية او صعوبات التعلم الذين قد تعيقهم الوسائط التقليدية عن التعبير عن كفاياتهم الحقيقية، ويبرز الفرق أيضا على مستوى العلاقة البيداغوجية إذ يقوم التقويم التقليدي على علاقة سلطوية يكون فيها المدرس حكما والمتعلم موضوعا للتقييم، بينما يؤسس التقويم الدامج لعلاقة تشاركية، يصبح فيها المتعلم فاعلا في تقييم تعلمه من خلال التقييم الذاتي والتقويم بالنظير وهذا ما يعزز الشعور بالمسؤولية والانتماء.

وعليه، فان الانتقال من التقويم التقليدي الى التقويم الدامج لا يمثل مجرد تغيير في الادوات بل هو تحول عميق في الفلسفة التربوية، يستوجب إعادة النظر في أدوار المدرس والمتعلم، وفي وظائف المدرسة ذاتها.

ثالثا: أدوات التقويم التكويني في السياق الدامج

يعد التقويم التكويني أحد المكونات الأساسية للتقويم الدامج، إذ يهدف الى تتبع تعلم المتعلمين بشكل مستمر، وتقديم تغذية راجعة تساعدهم على تحسين أدائهم. ويكتسي هذا النوع من التقويم أهمية خاصة في التعليم الدامج، لكونه يسمح بالكشف المبكر عن الصعوبات وتقديم الدعم المناسب في الوقت المناسب. إن من بين أهم أدوات التقويم التكويني الملاحظة المنظمة التي تمكن المدرس من تتبع سلوكيات المتعلمين وتفاعلاتهم داخل القسم خاصة أولئك الذين يواجهون صعوبات في التعبير الكتابي، كما تتيح الملاحظة فهم السياق الذي يتم فيه التعلم مما يساعد على تكييف التدخلات البيداغوجية.

تعتبر ملفات الانجاز أداة فعالة في التقويم الدامج؛ حيث تسمح بتجميع أعمال المتعلم على مدى زمني معين، مما يعكس تطوره وتقدمه، وتتميز هذه الأداة بمرونتها، إذ يمكن تكييف محتواها حسب قدرات واهتمامات المتعلم كما تعزز لديه مهارات التنظيم والتقييم الذاتي، كما يشكل التقييم الذاتي والتقويم بالنظير رافعتين أساسيتين للتعلم الدامج، إذ يساهمان في تنمية الوعي بالذات وتحمل المسؤولية، ومن خلال إشراك المتعلم في تقييم تعلمه يتم تعزيز ثقته بنفسه خاصة بالنسبة للمتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة الذين غالبا ما يعانون من ضعف تقدير الذات؛ حيث تبرز أيضا أهمية المشاريع والعروض كأدوات بديلة للتقويم؛ حيث تتيح للمتعلمين التعبير عن مكتسباتهم بطرق إبداعية ومتنوعة بعيدا عن قيود الاختبارات التقليدية ويمكن لهذه الادوات أن تكون مدعومة بالتكنولوجيا المساعدة، مثل التطبيقات الرقمية والوسائط المتعددة مما يسهل عملية التقييم ويجعلها أكثر شمولية. وبالتالي يستدعي توظيف هذه الأدوات توفر كفايات مهنية لدى المدرس، خاصة في مجال التخطيط والتكييف والتغذية الراجعة، كما يتطلب دعما مؤسساتيا، من خلال تقليص الاكتظاظ وتوفير الموارد اللازمة لضمان نجاعة التقويم التكويني في السياق الدامج.

رابعا: أثر التقويم الدامج على التحصيل الدراسي

يساهم التقويم الدامج بشكل مباشر في تحسين التحصيل الدراسي للمتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة، من خلال توفير بيئة تقييمية امنة ومحفزة، تقلل من القلق وتعزز الدافعية. فعندما يشعر المتعلم بان تقييمه يتم بشكل منصف، وبان اخطاءه تعتبر فرصا للتعلم، يزداد انخراطه في العملية التعليمية.

كما يساعد التقويم الدامج على الكشف الدقيق عن نقاط القوة لدى المتعلمين، مما يسمح باستثمارها في بناء التعلمات الجديدة. وهذا ما يتناقض مع التقويم التقليدي الذي يركز على مواطن الضعف، ويكرس صورة سلبية عن المتعلم. ومن خلال التكييف البيداغوجي، يتمكن المتعلم من تحقيق تقدم ملموس، حتى وان كان بوتيرة مختلفة.

ويؤدي التقويم الدامج ايضا الى تحسين جودة التدريس، اذ يوفر للمدرس معطيات دقيقة حول فعالية استراتيجياته، مما يمكنه من تعديل ممارساته بما يتلاءم مع حاجات المتعلمين. كما يعزز العمل التشاركي بين مختلف المتدخلين، مثل الاسرة والاخصائيين، في دعم المسار التعلمي.

وعلى المستوى النفسي والاجتماعي، يساهم التقويم الدامج في تعزيز الادماج المدرسي والحد من الهدر والانقطاع، خاصة في صفوف المتعلمين ذوي الاحتياجات الخاصة. اذ يشعر هؤلاء بانهم جزء فاعل من الجماعة الصفية، وليسوا موضوعا للوصم او التمييز.

وتؤكد العديد من الدراسات التربوية ان اعتماد تقويم دامج يؤدي الى تحسين النتائج الدراسية على المدى المتوسط والبعيد، كما ينعكس ايجابا على المهارات العرضانية، مثل التواصل وحل المشكلات. ومن ثم، فان التقويم الدامج لا يخدم فقط فئة معينة، بل يعود بالنفع على جميع المتعلمين، باعتباره تجسيدا لمدرسة الانصاف والجودة.

خاتمة

يعد التقويم الدامج ركيزة اساسية لتحقيق تعليم منصف وشامل، يضمن حق جميع المتعلمين في تقييم عادل يراعي خصوصياتهم الفردية. ومن خلال الانتقال من التقويم التقليدي الى التقويم الدامج، يتم اعادة الاعتبار للبعد الانساني للتربية، وتعزيز دور المدرسة كفضاء للادماج والتمكين. غير ان تنزيل هذا النوع من التقويم يظل رهينا بتكوين المدرسين، وتوفير الدعم المؤسساتي، وتبني سياسات تربوية واضحة تجعل من الانصاف التربوي خيارا استراتيجيا وليس مجرد شعار.

قائمة المراجع

كتب ومؤلفات علمية

v   أحمد، محمد عبد الرحمن. (2018). التقويم التربوي: الأسس النظرية والتطبيقات العملية. القاهرة: دار الفكر العربي.

v   الجوهري، عبد الكريم. (2020). التربية الدامجة: المفاهيم، المبادئ، والتطبيقات البيداغوجية. عمان: دار المسيرة.

v   الحربي، فهد بن محمد. (2019). التقويم البديل وأثره في تحسين نواتج التعلم. الرياض: مكتبة الرشد.

v   الخطيب، جمال محمد. (2017). مدخل إلى التربية الخاصة والتعليم الدامج (ط 3). عمان: دار الفكر.

v   زيتون، حسن حسين. (2016). استراتيجيات التدريس المعاصر والتقويم التربوي. القاهرة: عالم الكتب.

مقالات ودراسات علمية

v   بنعبد الله، عبد السلام. (2021). التقويم التكويني كمدخل لتحسين التعلمات في الفصول الدامجة، مجلة علوم التربية.

v   العمري، سمية. (2020). التعليم الدامج ورهانات تحقيق الإنصاف التربوي، المجلة العربية للتربية الخاصة.

تقارير ونصوص مرجعية

v   وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، (2019). دليل تكييف التقويم لفائدة المتعلمين في وضعية إعاقة. الرباط: مديرية المناهج.

تعليقات