التحديات البيداغوجية لتطبيق التربية الدامجة في السياق العربي


التحديات البيداغوجية لتطبيق التربية الدامجة في السياق العربي


مقدمة

أصبحت التربية الدامجة من أبرز القضايا التربوية التي تحظى باهتمام متزايد في السياسات التعليمية المعاصرة، باعتبارها مدخلا اساسيا لتحقيق العدالة التعليمية والانصاف وتكافؤ الفرص بين جميع المتعلمين ويقوم هذا التوجه على مبدأ جوهري مفاده أن المدرسة يجب أن تكون فضاء مفتوحا للجميع قادرا على استيعاب التنوع البشري بمختلف اشكاله سواء تعلق الأمر بالاعاقة، أو بالصعوبات التعلمية، أو بالاختلافات الاجتماعية والثقافية واللغوية.

في السياق العربي ارتبط الاهتمام بالتربية الدامجة بسياق دولي ضاغط خاصة بعد توقيع العديد من الدول العربية على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الاعاقة، واعتمادها لمقاربات اصلاحية تعلن الالتزام بتعميم التعليم الدامج داخل المدارس العادية، غير أن الانتقال من مستوى الالتزام القانوني والسياساتي إلى مستوى الممارسة البيداغوجية اليومية داخل الفصول الدراسية ما يزال يواجه عدة عراقيل تكشف عن فجوة واضحة بين الخطاب الرسمي والواقع التعليمي. إن التحديات البيداغوجية لتطبيق التربية الدامجة في السياق العربي لا يمكن اختزالها في بعد واحد بل هي نتاج تفاعل معقد بين عوامل مؤسساتية وبيداغوجية وثقافية واجتماعية، فضعف التكوينوالاكتظاظ ونقص الوسائل إضافة إلى المواقف المجتمعية السائدة تشكل منظومة متشابكة تعيق تحقيق الدمج الفعلي. ومن هذا المنطلق يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه التحديات تحليلا نقديامع استشراف افاق التطوير والإصلاح بما يراعي خصوصيات المجتمعات العربية.

أولا: تحديات التكوين البيداغوجي

يعد التكوين البيداغوجي حجر الزاوية في إنجاح التربية الدامجة، إذ لا يمكن تصور مدرسة دامجة دون مدرس متمكن من الكفايات المهنية اللازمة لتدبير التنوع داخل الفصل الدراسي، غير أن واقع التكوين في معظم الدول العربية يكشف عن قصور بنيوي سواء على مستوى التكوين الاساسي أو التكوين المستمر.

فعلى مستوى التكوين الاساسي ما تزال برامج إعداد المدرسين تركز على نموذج المتعلم المتوسط وتغيب عنها وحدات معمقة حول التربية الدامجة واستراتيجيات التعليم المتمايز والتقويم التكويني والتعامل مع الصعوبات التعلمية والاضطرابات النمائية، وغالبا ما يتم تناول موضوع الاعاقة بشكل نظري عام دون ربطه بالممارسة الصفية الفعلية مما يجعل المدرس حديث التخرج غير مستعد لمواجهة واقع الفصول الدامجة. أما على مستوى التكوين المستمر فيلاحظ أنه يتسم بالطابع المناسباتي والانتقائي؛ حيث تقتصر الدورات التكوينية على فئات محدودة من المدرسين، وغالبا ما تفتقر إلى الاستمرارية والتأطير الميداني، كما أن غياب المواكبة داخل الأقسام يجعل أثر هذه التكوينات محدودا، إذ يجد المدرس نفسه وحيدا في مواجهة وضعيات تعليمية معقدة تتطلب دعما متعدد التخصصات، إلى جانب ذلك تلعب تمثلات المدرسين دورا حاسما في إنجاح أو فشل التربية الدامجة فبعض المدرسين ينظرون إلى الدمج باعتباره عبئا إضافيا يثقل كاهلهم خاصة في ظل غياب التحفيز والدعم المؤسسي. كما أن الخلط بين الدمج والتساهل البيداغوجي يؤدي أحيانا إلى ممارسات غير ملائمة تضر بجودة التعلمات وتكرس الفشل الدراسي بدل معالجته.

ثانيا: الاكتظاظ وضعف الوسائل التعليمية

يشكل الاكتظاظ داخل الفصول الدراسية أحد أبرز العوائق البنيوية أمام تطبيق التربية الدامجة في السياق العربي، ففي العديد من المؤسسات التعليمية يتجاوز عدد المتعلمين في القسم الواحد القدرة الاستيعابية المعقولة مما يجعل من الصعب على المدرس تكييف التعلمات وفق حاجات كل متعلم.

إن التدبير البيداغوجي لقسم مكتظ يتطلب جهدا مضاعفا حتى في ظل تعليم تقليدي فكيف الحال عندما يتعلق الأمر بقسم يضم متعلمين ذوي حاجات تربوية خاصة يحتاجون إلى تتبع فردي وتكييف في الأنشطة والوسائل وأساليب التقويم وفي غياب تخفيض فعلي لأعداد المتعلمين تتحول التربية الدامجة إلى مجرد شعار يصعب تنزيله ميداني،إلى جانب الاكتظاظ يعاني التعليم العربي من ضعف كبير في الوسائل التعليمية والدعامات البيداغوجية المساعدة فالكثير من المدارس تفتقر إلى الوسائل التكنولوجية والمواد الديداكتيكية الملائمة والأدوات التعويضية الضرورية لبعض فئات المتعلمين، كما أن غياب فرق متعددة التخصصات تضم أخصائيين نفسيين واجتماعيين ومعالجي نطق يزيد من تعقيد الوضع ويجعل المدرسة عاجزة عن الاستجابة الشاملة لحاجات المتعلمي؛ حيث تؤدي هذه الوضعية إلى اعتماد حلول ترقيعية، غالبا ما تتمثل في إعفاء المتعلم من بعض الأنشطة أو تخفيض سقف الانتظارات، وهو ما يتعارض مع فلسفة التربية الدامجة التي تسعى إلى تمكين المتعلم لا إلى تهميشه داخل القسم.

ثالثا: المواقف المجتمعية والثقافية

لا يمكن تحليل التحديات البيداغوجية للتربية الدامجة بمعزل عن السياق المجتمعي والثقافي الذي تنتمي إليه المدرسة، فالمجتمعات العربية ما تزال في جزء منها تحمل تمثلات تقليدية حول الاعاقة والاختلاف تقوم على الشفقة أو الوصم أو التقليل من القدرات؛ حيث تنعكس هذه التمثلات على مواقف الأسرفقد تتردد بعض العائلات في تسجيل أبنائها في المدارس العادية خوفا من التمييز أو الفشل، في حين تعارض أسر أخرى وجود متعلمين ذوي إعاقة داخل أقسام أبنائها بدعوى تأثير ذلك على المستوى الدراسي، كما أن ضعف الوعي بمفهوم التربية الدامجة يجعل المدرسة في مواجهة ضغوط اجتماعية متناقضة.

من جهة أخرى تسهم وسائل الإعلام بشكل غير مباشر في تكريس صور نمطية حول الاشخاص ذوي الإعاقة، من خلال تقديمهم إما كضحايا دائمين أو كحالات استثنائية بدل إبرازهم كمواطنين فاعلين لهم حقوق وقدرات معرفية مؤهلة وأكثر نجاعة وعطاء. وبالتالي يؤدي هذا المناخ الثقافي إلى إضعاف الجهود البيداغوجية الرامية إلى بناء مدرسة دامجة قائمة على قيم الاحترام والتنوع.

رابعا: افاق التطوير والإصلاح

رغم تعدد التحديات فإن افاق تطوير التربية الدامجة في السياق العربي تظل ممكنة شريطة اعتماد رؤية إصلاحية شمولية تتجاوز الحلول الجزئية، ويأتي في مقدمة هذه الافاق إعادة هيكلة منظومة التكوين من خلال إدماج التربية الدامجة كمكون أساسي في برامج إعداد المدرسين وربط التكوين النظري بالممارسة الميدانية. كما يتطلب الأمر مراجعة السياسات المتعلقة بتدبير الأقسام والعمل على تخفيض الاكتظاظ وتوفير موارد بشرية متخصصة داخل المؤسسات التعليمية، ويشكل الاستثمار في التكنولوجيات المساعدة فرصة واعدة لتعزيز التعلمات خاصة في ظل التحول الرقمي الذي تعرفه النظم التعليمية.

وعلى المستوى المجتمعي تبرز الحاجة إلى حملات تحسيسية مستمرة تهدف إلى تغيير التمثلات  الاجتماعية السائدة حول الإعاقة وتعزيز ثقافة الاختلاف والتعايش، كما أن إشراك الأسر والمجتمع المدني في مشاريع التربية الدامجة من شأنه أن يدعم المدرسة ويخفف عنها العبء الثقيل الذي تتحمل فيه المسؤولية كجهاز مؤسساتي قائم بذاته. إن إنجاح التربية الدامجة في السياق العربي ليس مسؤولية المدرسة وحدها بل هو مشروع مجتمعي يتطلب تضافر الجهود وتنسيق السياسات والانتقال من منطق التدبير إلى منطق الحقوق.

خاتمة

 لب القول تظهر التحديات البيداغوجية لتطبيق التربية الدامجة في السياق العربي أن الإشكال لا يكمن في غياب الإرادة المعلنة بل في تعقيد شروط التنزيل الفعلي، فضعف التكوين والاكتظاظ ونقص الوسائل والمواقف المجتمعية السائدة تشكل عوائق متداخلة تعيق تحقيق مدرسة دامجة حقيقية، غير أن تجاوز هذه التحديات يظل ممكنا إذا ما تم اعتماد مقاربة إصلاحية شمولية تجعل من التربية الدامجة رافعة لتجويد التعليم لا عبئا إضافيا عليه وبالتالي فالتربية الدامجة ليست خيارا بيداغوجيا فحسب بل هي تعبير عن التزام أخلاقي وإنساني تجاه حق الجميع في تعليم منصف وذي جودة.

لائحة المراجع

     ابو زيد، احمد محمد (2019)، التربية الخاصة والتربية الدامجة المفاهيم والتطبيقات،عمان: دار المسيرة للنشر والتوزيع.

     الازرق، حسن بن علي (2020)، دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس العادية التحديات والرهانات،مجلة العلوم التربوية.

     البنا، محمد عبد الرحمن (2017)، التكوين المهني للمدرس في ظل التربية الدامجة،القاهرة: عالم الكتب.

     الحمامي، محمد (2020) ، الاكتظاظ المدرسي وانعكاساته على جودة التعلمات، مجلة البحث التربوي.

     الهيئة العربية للتربية والثقافة والعلوم (2019)، التعليم الدامج في الدول العربية الواقع والتحديات، تونس: الالكس.

 


تعليقات