الشراكة بين الاسرة والمدرسة في نجاح التربية الدامجة: "التجربة الكندية نموذجا"

الشراكة بين الأسرة والمدرسة في نجاح التربية الدامجة: "التجربة الكندية نموذجا"

مقدمة

تشكل التربية الدامجة احد التحولات الكبرى التي عرفتها الانظمة التربوية المعاصرة، باعتبارها مقاربة تربوية تقوم على مبدأ الحق في التعليم للجميع دون تمييز، وتسعى الى تمكين جميع المتعلمين بمن فيهم الاشخاص في وضعية اعاقة من التعلم داخل الفضاء المدرسي العادي في ظروف تربوية ملائمة ومحفزة. وقد افرز هذا التحول الحاجة الى اعادة النظر في ادوار مختلف الفاعلين التربويين، وفي مقدمتهم الاسرة والمدرسة، باعتبارهما شريكين اساسيين في بناء مسار تعليمي ناجح.

وفي سياق التربية الدامجة، لم تعد المدرسة الفاعل الوحيد المسؤول عن التعلمات، كما لم تعد الاسرة مجرد طرف متلق او داعم ثانوي، بل اصبحت الشراكة بينهما ضرورة تربوية ومؤسساتية لضمان استمرارية التعلم، وتكامل التدخلات، والاستجابة الفعلية لحاجات المتعلمين في وضعية اعاقة. فنجاح التربية الدامجة يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى انسجام الادوار بين الفضاء المدرسي والوسط الاسري، وبقدرة الطرفين على بناء قنوات تواصل فعالة قائمة على الثقة والتعاون وتبادل المعطيات.

وتبرز اهمية هذه الشراكة بشكل خاص عند التعامل مع المتعلمين في وضعية اعاقة، نظرا لتعقيد حاجاتهم التعليمية والنفسية والاجتماعية، وما تتطلبه من تنسيق دائم بين المدرسين والأسر من اجل ملاءمة الاستراتيجيات البيداغوجية والداعمة داخل المدرسة وخارجها. وقد اثبتت الدراسات التربوية المقارنة ان الانظمة التعليمية التي نجحت في ترسيخ التربية الدامجة هي تلك التي جعلت من الشراكة مع الاسرة عنصرا بنيويا في سياساتها العمومية، وليس مجرد خيار تنظيمي.
وفي هذا الاطار، تعتبر كندا من الدول الرائدة في مجال التربية الدامجة، حيث اعتمدت منذ عقود مقاربة شمولية قائمة على حقوق الانسان، واولت اهمية قصوى لدور الاسرة كشريك تربوي فاعل في تخطيط وتنفيذ وتتبع المسارات التعليمية الفردية للمتعلمين في وضعية اعاقة. وانطلاقا من ذلك، يهدف هذا المقال الى تحليل دور الشراكة بين الاسرة والمدرسة في انجاح التربية الدامجة، من خلال دراسة التجربة الكندية، وذلك عبر التطرق الى اهمية التواصل المدرسي الاسري، وادوار الاسرة في الدعم التربوي، والتحديات العملية التي تواجه هذه الشراكة، ثم عرض نماذج ناجحة توضح اثر التعاون بين الاسرة والمدرسة في تحقيق تعليم دامج وناجع.

أولا: أهمية التواصل المدرسي والأسري.

يعد التواصل بين المدرسة والاسرة حجر الزاوية في بناء شراكة فعالة تدعم مسار المتعلم في وضعية اعاقة. فالتواصل المنتظم والمتبادل يمكن من تقاسم المعلومات المتعلقة بحاجات المتعلم، وتقدمه الدراسي، وصعوباته السلوكية او التعليمية، مما يساهم في توحيد الرؤى والتدخلات بين الطرفين. وفي سياق التربية الدامجة، يكتسي هذا التواصل بعدا استراتيجيا، لانه يضمن استمرارية الدعم التربوي بين المدرسة والبيت، ويحد من التناقضات التي قد تؤثر سلبا على تعلم المتعلم.
في التجربة الكندية، يتم تنظيم التواصل المدرسي الاسري وفق اطار مؤسساتي واضح، حيث تعتمد المدارس قنوات تواصل متعددة تشمل اللقاءات الدورية، والتقارير التربوية الفردية، والوسائط الرقمية، والاجتماعات المشتركة حول البرامج التربوية الفردية. ويهدف هذا التنظيم الى جعل الاسرة شريكا مطلعا ومشاركا في اتخاذ القرار التربوي، وليس مجرد متلق للنتائج.
كما يساهم التواصل الجيد في بناء علاقة ثقة بين الاسرة والمدرسة، وهو عنصر اساسي لانجاح التربية الدامجة. فحين تشعر الاسرة بان المدرسة تنصت لانتظاراتها وتحترم خبرتها حول طفلها، تصبح اكثر استعدادا للتعاون والمشاركة الايجابية. وفي المقابل، يتيح هذا التواصل للمدرسين فهما اعمق للسياق الاسري والثقافي للمتعلم، مما يساعدهم على تكييف الممارسات البيداغوجية بشكل أكثر فاعلية ونجاعة، حيث تؤكد الابحاث التربوية ان غياب التواصل او ضعفه يؤدي في كثير من الحالات الى سوء فهم متبادل، والى تضارب في اساليب الدعم، مما ينعكس سلبا على تعلم المتعلمين في وضعية اعاقة. لذلك، تعتبر كندا ان التواصل المدرسي الاسري ليس مجرد اجراء اداري، بل ممارسة تربوية اساسية ينبغي ادماجها في ثقافة المؤسسة التعليمية.

 ثانيا: أدوار الأسرة في الدعم التربوي للمتعلمين في وضعية إعاقة.

تلعب الاسرة دورا محوريا في دعم المتعلمين في وضعية اعاقة، سواء على المستوى التربوي او النفسي او الاجتماعي. فهي الفضاء الاول الذي يكتسب فيه الطفل قيمه وسلوكياته الاساسية، كما انها تشكل مصدرا مهما للمعلومات حول قدراته واهتماماته وحاجاته الخاصة. وفي اطار التربية الدامجة، يتجاوز دور الاسرة حدود الدعم العاطفي ليشمل المشاركة الفعلية في تخطيط وتنفيذ البرامج التربوية الفردية في كندا يتم الاعتراف بالاسرة كشريك تربوي كامل، حيث تشارك في اعداد المشروع التربوي الفردي، وفي تحديد الاهداف التعليمية، وفي تقييم التقدم المحرز. ويعكس هذا التوجه قناعة راسخة بان الاسرة تمتلك معرفة دقيقة بطفلها، وان هذه المعرفة ضرورية لبناء تدخل تربوي ملائم ومستدام. كما تضطلع الاسرة بدور اساسي في دعم التعلمات داخل البيت، من خلال توفير بيئة مشجعة على التعلم، ومواكبة الواجبات والانشطة، وتعزيز المهارات الحياتية التي تساهم في استقلالية المتعلم. ويكتسي هذا الدور اهمية خاصة بالنسبة للمتعلمين في وضعية اعاقة، لان التعلم لا يقتصر على المحتويات الاكاديمية، بل يشمل ايضا تنمية مهارات التواصل، والتنظيم الذاتي، والتفاعل الاجتماعي.
ومن جهة اخرى، تساهم الاسرة في الدفاع عن حقوق طفلها داخل المنظومة التعليمية، من خلال المطالبة بالخدمات الداعمة، والمشاركة في اتخاذ القرار، والتعاون مع مختلف المتدخلين. وقد مكنت السياسات التربوية الكندية الاسر من ادوات قانونية وتنظيمية تخول لها لعب هذا الدور مما عزز من فعالية الشراكة بينها وبين المدرسة.

ثالثا: التحديات العملية للشراكة بين الأسرة والمدرسة.

على الرغم من الاهمية البالغة للشراكة بين الاسرة والمدرسة في انجاح التربية الدامجة، الا ان هذه الشراكة تواجه عدة تحديات عملية قد تعيق تحقيق اهدافها. ومن بين هذه التحديات تفاوت مستوى وعي الاسر بمفهوم التربية الدامجة، واختلاف التمثلات حول الاعاقة، فضلا عن الاكراهات الزمنية والمهنية التي تحد من قدرة بعض الاسر على الانخراط المنتظم في الحياة المدرسية.
وفي السياق المدرسي، قد يواجه المدرسون صعوبات مرتبطة بكثافة البرامج الدراسية، ونقص التكوين المتخصص في مجال التواصل مع الاسر، مما يؤثر على جودة الشراكة. كما ان غياب تنسيق واضح بين مختلف المتدخلين قد يؤدي الى تشتت الجهود وضعف نجاعة التدخلات.
وتظهر التجربة الكندية ان تجاوز هذه التحديات يتطلب اعتماد مقاربة شمولية، تقوم على تكوين المدرسين في مجال العمل التشاركي، وتوفير دعم مؤسساتي للاسر، وتطوير آليات تواصل مرنة تراعي خصوصيات كل اسرة. كما يتم العمل على تعزيز ثقافة الشراكة داخل المدرسة، من خلال اعتبار التعاون مع الاسرة جزءا لا يتجزأ من المهام المهنية للمدرسين والادارة التربوية.

رابعا: نماذج ناجحة للشراكة بين الأسرة والمدرسة في كندا.

تزخر التجربة الكندية بعدة نماذج ناجحة تعكس اثر الشراكة بين الاسرة والمدرسة في انجاح التربية الدامجة. من بين هذه النماذج اعتماد فرق متعددة التخصصات تضم المدرسين، والاخصائيين، والاسر، تعمل بشكل مشترك على تخطيط وتتبع البرامج التربوية الفردية. ويتيح هذا النموذج تبادل الخبرات، وتنسيق التدخلات، وضمان استجابة شمولية لحاجات المتعلم.
كما اعتمدت العديد من المدارس الكندية منصات رقمية للتواصل مع الاسر، تمكن من الاطلاع المستمر على تقدم المتعلم، وتبادل الملاحظات، وتقديم الدعم في الوقت المناسب. وقد ساهمت هذه الادوات في تعزيز الشفافية وبناء علاقة ثقة قائمة على التعاون المستمر.
وتبرز نتائج هذه النماذج في تحسن التحصيل الدراسي، وارتفاع مستوى الاندماج الاجتماعي، وتعزيز الشعور بالانتماء لدى المتعلمين في وضعية اعاقة. وهو ما يؤكد ان الشراكة الفعالة بين الاسرة والمدرسة ليست خيارا ثانويا، بل شرطا اساسيا لتحقيق تربية دامجة ناجحة ومستدامة.

خاتمة
يخلص هذا المقال الى ان الشراكة بين الاسرة والمدرسة تشكل ركيزة اساسية في انجاح التربية الدامجة، خاصة عندما يتم تأطيرها ضمن رؤية حقوقية وبيداغوجية واضحة. وتبرز التجربة الكندية كنموذج رائد في هذا المجال، حيث تم الانتقال من منطق الدعم العرضي الى منطق الشراكة المؤسسية المبنية على التواصل والتنسيق وتكامل الادوار. ويظل الرهان المطروح امام باقي الانظمة التربوية، ومن بينها الدول العربية، هو استلهام هذه التجارب وتكييفها مع السياقات المحلية، بما يضمن تعليما دامجاً ومنصفا لجميع المتعلمين.

 قائمة المراجع

Ø   أينسكو، ميل، تعزيز الإدماج والإنصاف في التعليم، لندن: روتليدج، 2020.

Ø   بوث، توني، وأينسكو، ميل، دليل الإدماج: تطوير التعلم والمشاركة في المدارس،مركز دراسات التربية الدامجة، 2011.

Ø   فلوريان، ليندا، ما الذي يعد دليلا على التربية الدامجة؟ المجلة الأوروبية للتربية الخاصة، المجلد 29، العدد 3، 286–294، 2014.

Ø   منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، دليل ضمان الادماج والانصاف في التعليم، باريس: منشورات اليونسكو، 2017.

Ø   منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، التقرير العالمي لرصد التعليم: الادماج والتعليم، باريس: منشورات اليونسكو، 2020.

Ø   منظمة الامم المتحدة للطفولة. حالة اطفال العالم: اطفال ذوو اعاقة، نيويورك،اليونيسف، 2013.

Ø   وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي،الاطار المرجعي للتربية الدامجة، الرباط: وزارة التربية الوطنية، 2019.

Ø   المنظمة الدولية للعمل، ادماج الاشخاص في وضعية اعاقة من خلال التعليم والتكوين، جنيف: منشورات المنظمة الدولية للعمل، 2015.

Ø   إبشتاين، جويس،الشراكة بين المدرسة والاسرة والمجتمع: اطار للتعاون من اجل تعلم المتعلمين،بالتيمور: دار النشر الجامعي، 2018.


تعليقات